الرئيسيةتكنولوجيا

علم الآثار أصبح من السماء بفضل تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية

هاشتاق عربي

في هذه الأيام، إذا كنت تريد البحث عن الحضارات المفقودة، فلا داعي لأن تشق طريقك عبر الأدغال على غرار [الشخصية السينمائية] إنديانا جونز، فما عليك سوى تشغيل الكومبيوتر المحمول.

لقد غيرت تكنولوجيا الاستشعار مِنْ بُعد علم الآثار. أزالت أدوات التصوير بالأقمار الاصطناعية والمسح الجوي من نوع “ليدار” كثيراً من التخمين، ولم تعد الحفريات التقليدية ضرورية في كثير من الأحيان.

الآن بعد أن أصبح بإمكاننا اختراق سطح الأرض للكشف عن آثار منازل أسلافنا المخفية من بعد آلاف الأميال، يميل علماء الآثار إلى الشروع في الحفريات التقليدية، إذا كانوا يعرفون بالفعل ما سيجدونه.

من خلال تحليل الصور عالية الدقة من أقمار “ناسا” الاصطناعية الملتقطة بالأشعة تحت الحمراء من طيف الضوء، ابتكرت عالمة الآثار الفضائية سارا بارساك طريقة “مسح أشعة” للكوكب لتحديد المواقع ذات الأهمية الأثرية المحتملة.

بصفتها أستاذة في علم الأنثروبولوجيا ومديرة مختبر المراقبة العالمية بجامع ألاباما، اكتشفت بارساك وفريقها اختلافات طفيفة على سطح الأرض لا تراها العين البشرية من الأرض.

ومثلاً، عند تحليل الحقول والغابات، اكتشفت بارساك وفريقها أن البقع التي كان الغطاء النباتي فيها أقل كثافة في اللون، ولو قليلاً، تكون مناطق تستحق فحصاً دقيقاً. بالتالي، تبين أن التركيز على الظلال الخافتة من الكلوروفيل يشكل مقاربة فاعلة للغاية لأنه يؤشر على وجود جذور ضحلة وضعيفة من النوع الذي يتوقع أن تجده في أي مكان يحتوي تراكيب من صنع الإنسان مخبأة تحت السطح مباشرة. سمحت هذه التقنيات لبارساك وفريقها بتحديد مئات المواقع ذات القيمة الأثرية في مصر. ومن الأمثلة على ذلك، التوصل إلى رسم خرائط لشوارع بلدة “صان الحجر” القديمة (التي صورت بشكل خيالي على أنها تحتضن التابوت في فيلم “سارقو التابوت الضائع”). بالتالي، تمكنت بارساك وفريقها من المساعدة في انتشار علم الآثار باعتباره من العلوم المتاحة للعامة.

في عام 2016، من خلال إطلاق منصة “غلوبال إكسبلورر” GlobalXplorer على الإنترنت، تمكن فريق بارساك من رسم خريطة للبيرو بأكملها من خلال جمع الأعمال التحليلية لصور الأقمار الاصطناعية من علماء الآثار الهواة.

مع هدف معلن متمثل في “إحداث ثورة كاملة في كيفية عمل علم الآثار الحديث من خلال إنشاء شبكة عالمية من المواطنين المستكشفين”، حشدت “غلوبال إكسبلورر” 900 ألف شخص ممن أبدوا حماسة حيال مشروعها. وتزعم أيضاً أنها تعقبت عدداً من المواقع ذات الأهمية الكبرى.

وبصفتها عالمة آثار ومتخصصة في الاستشعار من بعد في “جامعة نيوكاسل”، وجدت الدكتورة لويز راين أن السرعة التي حول بها تحليل صور الأقمار الاصطناعية علم الآثار كنظام أكاديمي، مربكة للغاية.

وبكلماتها، “حينما أتوقف وأفكر في الأمر، أشعر بالصدمة. حينما بدأت في تعلم كيفية استخدام هذه الأساليب في حوالى عام 2009، لم يكن هناك سوى مصدر واحد أو مصدرين لبيانات الأقمار الاصطناعية المجانية التي يمكن استخدامها في الرسم الآلي للخرائط. ولكن الآن، بات هناك عدد من الأقمار الاصطناعية الأخرى. وكذلك يتيح لنا استخدام الحوسبة السحابية والحوسبة العالية الأداء بمعالجة آلاف الصور”.

وأثرت تكنولوجيا “ليدار” Lidar بشدة على علم الآثار أكثر من تأثير التصوير عبر الأقمار الاصطناعية. يختصر مصطلح “ليدار”، عبارة “تتبع الضوء وتحديد المدى” [المقصود هو إرسال ضوء الليزر بتموجات معروفة، ثم متابعة قياس تموجاتها وارتداداتها بغية تحديد المسافات المختلفة التي تصل إليه]. ويشكل “ليدار” نظام ليزر يمكن نقله من طائرة ويستطيع بناء نموذج دقيق ثلاثي الأبعاد للأرض، ورسم خرائط تحتوي على المعالم المختلفة، وبتفاصيل عالية الدقة. منذ استخدمت مؤسسة “تاريخ إنجلترا”، المنظمة الحكومية المسؤولة عن تحديد تراثنا المخفي وحمايته، “ليدار” للمرة الأولى في رسم خريطة للمنطقة المحيطة بموقع “ستونهنج” الآثاري الشهير في عام 2005، إذ سبرت أعماق مساحات من الطبيعة الإنجليزية مما مكنها من اكتشاف معسكرات رومانية مفقودة وآثار من العصر الحجري الحديث ومقابر العصر البرونزي.

وفقاً لرئيس فريق المسح الجوي في مؤسسة “تاريخ إنجلترا” ماثيو أوكي، فإن “ليدار يعتبر أحد أهم التطورات في علم الآثار من الفضاء، خلال السنوات الـ15 إلى الـ20 الأخيرة”.

وأوضح أوكي أن “ليدار” يستخدم مئات الآلاف من أشعة الضوء، مما يعطيه القدرة على اختراق الفجوات في أعماق الأرض، حتى في أكثر مناطق الغابة كثافة. “يمكن معالجة صور ’ليدار‘ بتقنيات تتيح إزالة طبقة الغطاء النباتي السطحي بشكل افتراضي منها، والكشف عن المعالم الطبيعية الدفينة. لقد اكتشفت آلاف المواقع الجديدة في مناطق غابات لم نكن قادرين على استكشافها من الجو قبل ذلك” وفق أوكي.

مقارنة ببقية العالم، تعتبر المملكة المتحدة بالفعل من أكثر البلدان التي رسمت خرائطها بواسطة “ليدار” لأن الحكومة تستخدم هذه الأداة منذ عام 1998 كجزء من عملها في مواجهة الفيضانات.

إضافة إلى تحليل مجموعات البيانات التي جرى توفيرها مجاناً من “وكالة البيئة” في عام 2015، تجري مؤسسة “تاريخ إنجلترا” استطلاعات جوية بشكل روتيني. وباتت الآن قادرة على نشر “ليدار” باستخدام طائرات من دون طيار، للكشف عن آثار تعود إلى حقب ما قبل التاريخ في هذه البلاد.

ووفق أوكي، “يعتبر ’ليدار‘ مناسباً بشكل خاص لتسجيل الآثار في المناطق الطبيعية المرتفعة حيث غالباً ما يجري الحفاظ على الطبيعة بشكل أفضل بسبب تدني أعمال الحراثة. في تلك الحالات، شكل ’ليدار‘ أداة أساسية في دراسة الأنظمة الميدانية والمسارات والمستوطنات التي يعود تاريخها إلى فترة ما قبل التاريخ. وكذلك اكتشف عدد من المعسكرات والطرق الرومانية الجديدة”.

يتولى ديفيد راتليدج، مهندس طرق متقاعد ومن هواة علم آثار، المسؤولية عن تحديد مواقع عدد من الطرق الرومانية القديمة.

ومع قليل من المعلومات بخلاف خطوط السياج وافتراض أن حدود الأبرشيات القديمة ستشكل أمكنة منطقية للبحث، أمضى راتليدج أكثر من 40 عاماً في البحث عن الطرق الرومانية المفقودة، لكنه لم يحقق سوى نجاح محدود.

ووفق ما أخبرني راتليدج، “بدا الأمر ترفيهاً رائعاً. لكنني لم أجد كثيراً. توجب علينا الاكتفاء بالاعتماد على النتوءات والشقوق في الحقول. ولسوء الحظ، تحتوي الحقول كلها تقريباً على نتوءات وشقوق. بالتالي، فقد تخدع نفسك حينما تعتقد بأنك وجدت شيئاً”.

في المقابل، أدى إصدار “وكالة البيئة” لمجموعة ضخمة من بيانات “ليدار” في عام 2015، إلى تغيير كل ذلك، استناداً إلى ميزة عثر عليها صدفة، في الهندسة المدنية الرومانية.

كذلك يوضح راتليدج أن الكلمة الحديثة “الطرق السريعة” [بالانجليزية، تعني حرفياً، طرق عالية] مشتقة من الطريقة التي أعلى بها الرومان طرقهم فوق المساحات الطبيعية من خلال رصفها بارتفاع وصل إلى سماكة قدمين إلى ثلاثة أقدام فوق سطح التراب. ويعني ذلك أنه جرى تركيبها حرفياً كأنها “طرق سريعة”. وعلى رغم أن تلك الطرق جرفت على مر القرون وقد لا يزيد ارتفاعها على بضع بوصات، إلا أن تقنية “ليدار” تملك من الحساسية ما يكفي لاكتشاف ما تبقى من تلك الطرق العالية.

وحينما طور أحد أصدقائه برنامجاً يستطيع تحويل بيانات “ليدار” إلى نموذج ثلاثي الأبعاد للمناظر الطبيعية، تمكن راتليدج من استكشافها افتراضياً، بحثاً عن الظلال التي تلقيها بقايا تلك التلال من الطرق العالية، في صور “ليدار”.

ووفق توضيح من راتليدج، “يشبه الأمر لعبة ’ماينكرافت‘ الشهيرة، لكن بدقة أعلى بكثير. يمكنني الذهاب بحرية في أي اتجاه. ولأنه نموذج رقمي، يمكنني وضع الشمس في أي اتجاه أريده، وهذا أمر بالغ الأهمية. إذا وضعت الشمس في الاتجاهات الصحيحة، بزوايا صحيحة على الطريق، يمكنك التقاط هذه النتوءات. وإذا كانت الطرق مرتصفة جميعها حقول متعددة، تعطيك الصور خطوطاً تشير إلى ذلك الارتصاف. بمجرد أن تتخلص من احتمال أن الارتصاف ليس متأتياً من خط سكة حديد قديم أو أحد خطوط الغاز، فأنت تعلم أنك عثرت على طريق روماني”.

واستطراداً، لطالما تمثل الموضوع المقدس بالنسبة إلى راتليدج في الطريق المفقود الذي توجب أن ربط ذات مرة بين المدينتين الرومانيتين الكبيرتين ريبشيستر ولانكستر.

وبحسب راتليدج، “من الواضح أن طريقاً ما ربط بينهما، لكن لم يتمكن أحد من العثور عليه. وطوال 45 سنة، كنت أبحث في المكان الخطأ. وبمجرد استخدام ’ليدار‘، وجدته. حينما تجد طريقاً ظل مفقوداً طوال ألف عام وتكون قادراً على الوقوف عليه، تحصل على إثارة هائلة”.

قبل عمل راتليدج الأخير المستند إلى “ليدار”، ساد اعتقاد بأن شمال غربي إنجلترا منطقة راكدة نسبياً ولم تتمتع بسوى أهمية ضئيلة للرومان، بسبب ندرة ما عثر عليه من طرق في تلك المنطقة من النوع الروماني.

ولكن اتضح أن الرومان حرصوا على تنفيذ أجندتهم الموسعة طوال الوقت.

وبحسب راتليدج، “حينما وجدنا كل الطرق في الشمال الغربي وإذا نظرت إلى الشبكة بأكملها عبر كمبريا ولانكشاير إلى الحدود الاسكتلندية، فسترى إنها جيدة على غرار معظم نظيراتها في الأمكنة كلها”.

بالنظر إلى أن كل طريق كان عرضه ثمانية أمتار وبسماكة متر واحد، بالتالي يتوجب أن يكون بناؤه استغرق ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات، فقد كانت هذه مشاريع ضخمة. بالنسبة إلى راتليدج، تدعم تلك المعطيات زعمه بأنه بعيداً من [فرضية] كونها بؤرة استيطانية على الحافة البعيدة لإمبراطوريتهم، يجب أن تكون تلك المنطقة [شمال غربي إنجلترا]، تمتعت بأهمية استراتيجية حقيقية بالنسبة إلى الرومان.

الآن وقد نبش جزئياً عشرات الطرق التي اكتشفها راتليدج، بات يكن احتراماً كبيراً للرومان كمهندسين. على رغم أن بعض الطرق الآن عبارة عن عدد قليل من الحجارة المتناثرة، إلا أن بعضها الآخر جيد وكأنها جديدة.

وبحسب توضيح منه، “لطالما سادت أسطورة مفادها بأنهم [الرومان] رسموا خطاً مستقيماً ورصفوا الطرق استناداً إليها عليه. لكن لا، لم يكن الأمر كذلك. إن هندستهم لا يعلى عليها. حينما تدرسهم بالتفصيل ترى أنهم كانوا أذكياء للغاية. لقد عمدوا إلى تقليل المنحدرات، واتبعوا الخطوط العريضة إذ احتاجوا إلى ذلك. على رغم عدم بقاء أية خرائط [من وقتهم]، فمن الواضح أن طرقهم رصفت بعد إجراء عمليات مسح مدققه بعناية من نقاط مرتفعة”.

يشارك راتليدج النتائج التي توصل إليها على موقع ويب يسمى “السفر مع الرومان”، وكذلك عبر تحميل جولات مشي افتراضية على “يوتيوب” تمكن المستخدم من تتبع خطى الرومان في شمال غربي إنجلترا.

نظراً إلى السرعة التي بدلت فيها التكنولوجيا علم الآثار من علم ميداني تقليدي إلى علم للعامة يمكن الوصول إليه من خلال شاشة الكومبيوتر، فهناك بعض المخاوف بشأن مستقبله كنظام منهجي أكاديمي.

في الماضي، اقتضى الأمر العمل طوال سنوات كي يتمكن علماء الآثار من رسم خريطة كاملة لموقع مكتشف حديثاً. أما الآن، فباتت تقنيات المسح الجوية من نوع “ليدار” قادرة على إنجاز هذا العمل في غضون ساعات قليلة.

وفي تطور مماثل، يرى بوب جونستون، أستاذ علم الآثار في جامعة شيفيلد، إن ما غير كل شيء هو الاستقلال الذاتي الذي منح للجيل الجديد من علماء الآثار، لكنه أمر يثير مخاوف أيضاً.

ووفق رأيه، “تجلب التكنولوجيا التهديدات إضافة إلى الفرص لعلم الآثار والتراث. ثمة خطر يتمثل في أن الوصول الجاهز إلى المسح بالليزر يمكن أن ’يخفض مهارة‘ العملية. على رغم أن النماذج الرقمية قد تبدو مذهلة، إلا أنها لا تروي هذه القصص في حد ذاتها. إذاً، ما زلنا بحاجة إلى القيام بالعمل الفكري الماهر كي نستطيع تفسير الأدلة”.

بصفته أستاذاً لعلم الآثار في جامعة أكسفورد، يوافق ديفيد غريفيث على أنه لا ينبغي السماح للثورة التكنولوجية بالإشارة إلى نهاية العمل الميداني التقليدي.

ووفق ما أسر لي غريفيث، “إن تقنية ’ليدار‘ جيدة جداً في إظهار مكان التعقيد، لكنها لن تفهم ما تعثر عليه بدلاً منك. حيثما يتوفر تمثيل رقمي للواقع على شاشة كومبيوتر المكتب، فمن الأفضل دائماً، إن أمكن، الخروج وتجربة التعامل مع الطبيعة مباشرة. إن التصور الفني والوجود الشخصي في المكان والمساحة، هما أمران حيويان. ولا يغني واحد منهما عن الآخر”.

ومن المفارقات أن الفائدة الحقيقية للتكنولوجيا الجديدة تتمثل قدرتها ليس فقط على اكتشاف المواقع، بل الحفاظ عليها أيضاً. في العصر الذهبي الجديد لعلم الآثار، ستكون قريباً كمية المواد المستخرجة من الأرض أكبر من مساحة المتاحف المتاحة في تخزينها.

لذلك في بعض الأحيان، قد تكون أفضل طريقة للحفاظ على ماضينا هي تركه حيث نجده، من دون إزعاج. يمثل التنقيب من دون حفر الاتجاه الجديد في علم الآثار. نظراً إلى التقدم السريع في تقنية المسح، سيكون من الممكن قريباً إزالة غلاف المواقع المعقدة افتراضياً، طبقة تلو الأخرى.

حينما بدأ فريق بارساك في تحليل صور الأقمار الاصطناعية منذ ما يقرب من 20 عاماً، كان أحد أكثر النتائج إثارة للقلق يتمثل في “التشوهات” المنبهة التي تكشف عن مدى تعرض موقع ما جرى اكتشافه حديثاً للسرقة بالفعل بواسطة اللصوص.

وكنشاط إجرامي دولي، ينظر إلى تجارة المخدرات والأسلحة غير المشروعة باعتبار أنها وحدها التي تتفوق على الاتجار بالقطع الأثرية الثقافية المسروقة. يقدر الإنتربول سوق الممتلكات الثقافية بحوالى 10 مليارات دولار (8 مليارات جنيه استرليني).

ويؤدي ذلك إلى جعل معرفة الأماكن الآثارية المهمة، أمراً متزايد الأهمية. إذ بات من المستطاع إما حمايتها من اللصوص أو الاحتفاظ بها رقمياً قبل أن تمحى بسبب أعمال التطور الحضري.

المصدر: إندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى